في خطاب طارئ درامي ألقاه رئيس كوريا الجنوبية يون سوك يول، الثلاثاء الماضي، في الساعة 10:30 ليلاً عبر التلفزيون، أعلن أنه سيفرض الأحكام العرفية، ووصف المعارضة بأنها «قوى معادية للدولة» تهدد ديمقراطية البلاد.
تبع ذلك على الفور مرسوم من ست نقاط من قائد الأحكام العرفية الجديد، رئيس الجيش الجنرال بارك آن سو، يحظر الأنشطة السياسية والأحزاب، و«الدعاية الكاذبة»، والإضرابات و«التجمعات التي تحرض على الاضطرابات الاجتماعية»، وأمر بإخضاع جميع وسائل الإعلام لسلطة الأحكام العرفية، وأمر جميع العاملين في المجال الطبي، بمن في ذلك الأطباء المضربون، بالعودة إلى العمل خلال 48 ساعة.
أغلقت قوات الأمن مبنى البرلمان، وهبطت مروحيات على سطح المبنى، ودخلت القوات المبنى لفترة قصيرة، في محاولة لمنع النواب من الدخول، لكن 190 نائباً تمكنوا من الدخول، وصوتوا بالإجماع على رفض إعلان يون والدعوة إلى رفع الأحكام العرفية.
وتجمع مئات المحتجين خارج البرلمان، وردد عديد منهم هتافات تطالب باعتقال يون. واشتبك بعض المحتجين مع القوات، لكن لم ترد أنباء فورية عن وقوع إصابات أو أضرار جسيمة بالممتلكات.
بعد ست ساعات تراجع الرئيس عن قراره، إذ أعلن في الساعة 4:30 صباح الأربعاء (بالتوقيت المحلي)، أنه سيرفع الأحكام العرفية وفقاً للتصويت البرلماني، مما أثار حالة من الابتهاج بين المتظاهرين الذين لوحوا بالأعلام خارج البرلمان والذين تحدوا درجات الحرارة المتجمدة وظلوا يقظين طوال الليل في تحد لأمر الرئيس.
وقال البيت الأبيض، إنه «يشعر بالارتياح» لتراجع يون عن إعلانه الأحكام العرفية، مضيفاً «الديمقراطية هي أساس التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، وسنستمر في مراقبة الموقف».
وكانت الولايات المتحدة قالت في وقت سابق، إنها تتابع «بقلق بالغ» الأحداث في حليفتها الآسيوية الرئيسية حيث لديها 28500 جندي متمركزين للحماية من كوريا الشمالية.
تزايدت الضغوط على يون بعد القنبلة التي أطلقها في وقت متأخر من الليل، فبموجب دستور كوريا الجنوبية، يتعين احترام التصويت البرلماني لرفع الأحكام العرفية، رغم أن قادة عسكريين زعموا في البداية أنه رغم التصويت فإن الأحكام العرفية تظل قائمة حتى يرفعها الرئيس بنفسه، لكن المعارضة وقفت وقفة رجل واحد وأجبرت الرئيس على التراجع.
حتى إن زعيم حزب قوة الشعب المحافظ، الذي ينتمي إليه يون، وصف قرار فرض الأحكام العرفية بأنه «خطأ»، وقال لي جاي ميونج، زعيم المعارضة الذي خسر بفارق ضئيل أمام يون في الانتخابات الرئاسية عام 2022، إن إعلان يون «غير قانوني وغير دستوري»، ووصف حزب المعارضة الرئيسي خطوة الرئيس بأنها «انقلاب»، وطالبه بالاستقالة، متهماً إياه بـ«التمرد».
كما دعت نقابة العمال الرئيسية في البلاد إلى «إضراب عام مفتوح» حتى يستقيل الرئيس بسبب «الإجراء غير العقلاني وغير الديمقراطي».
ووصف حزب قوة الشعب الذي ينتمي إليه يون محاولته فرض الأحكام العرفية بأنها «مأساوية» وطالب بمحاسبة المتورطين فيها، فقد اجتمعت الكتل السياسية في البلاد لمعارضة قرار الرئيس بمن في ذلك أعضاء من حزبه، وقدم رئيس حزبه اعتذاراً للشعب.
ففرض الأحكام العرفية يعني منح الجيش حكماً مؤقتاً أثناء حالة الطوارئ، لذا كان الإعلان بمثابة قنبلة أشعلت مواجهة سياسية عنيفة في وقت متأخر من الليل، ففي دولة تتمتع بتقاليد معاصرة قوية في حرية التعبير، حظر المرسوم العسكري الذي أصدره يون جميع الأنشطة السياسية، فشعر الشعب بالصدمة.
وفي وقت متأخر من ليلة الثلاثاء، سارع سكان العاصمة سيول إلى التجمع مع أفراد عائلاتهم، فيما تجمع آخرون أمام مبنى البرلمان، وأبلغت الشرطة بعضهم أنه يمكن القبض عليهم دون أوامر قضائية، ورفع المتظاهرون لافتات وأعلاماً تطالب بعزل يون.
فتحرك الرئيس أعاد التذكير بعصر الزعماء الاستبداديين الذي انتهى في الثمانينيات، فكوريا الجنوبية اليوم دولة ديمقراطية تشهد احتجاجات منتظمة، وتتمتع المعارضة بحرية التعبير، وهناك انتخابات نزيهة، ونقل سلمي للسلطة، وكان الرؤساء من كلا الجانبين السياسيين يواجهون في كثير من الأحيان محاكمات أثناء وجودهم في مناصبهم وخارجها.
لكن فجأة تذكر الناس الماضي المظلم، فخلال أغلب فترة الحرب الباردة، مرت البلاد بسلسلة من الزعماء الأقوياء الذين أعلنوا الأحكام العرفية في بعض الأحيان للتمسك بالسلطة وسط استياء شعبي متزايد.
لكن كانت آخر مرة أعلن فيها رئيس كوري جنوبي الأحكام العرفية في عام 1980، أثناء انتفاضة وطنية قادها الطلاب والنقابات العمالية. ولم تنتخب كوريا الجنوبية رئيساً إلا في عام 1988 من خلال انتخابات حرة ومباشرة.
ولهذا السبب رفع المتظاهرون يومي الثلاثاء والأربعاء لافتات ورددوا شعارات تتعهد بعدم العودة إلى الحكم الديكتاتوري، الذي لا تزال ذكراه حاضرة في أذهان كثير من الناس.
وخلال الساعات الست قبل تراجع الرئيس فجر الأربعاء، كان من الممكن أن تتحول الاحتجاجات بسهولة إلى أعمال عنف دامية، مع نشر الجيش لقمع المتظاهرين.
وكان ذلك الإعلان الرئاسي غير دستوري، فلا يجوز للرئيس فرض الأحكام العرفية إلا في حالة طوارئ وطنية مثل الحرب أو الكوارث، لذا فإن التهمة الأكثر خطورة التي تنتظر يون هي التمرد.
يتمتع الرئيس بحصانة ضد الملاحقة القضائية باستثناء تهمة التمرد، ويحدد القانون الجنائي في كوريا الجنوبية التمرد بأنه «خلق العنف بغرض استبعاد السلطة الوطنية من حُكم جمهورية كوريا أو تقويض الدستور». وقد حكمت المحكمة العليا ذات يوم ضد الديكتاتور السابق، تشون دو هوان، بأن توسيعه حالة الطوارئ العسكرية لتشمل البلاد بأكملها يشكل تمرداً.
وربما لولا تمكن عدد كافٍ من المشرعين من القفز فوق أسوار البرلمان والتصويت ضد القرار لظلت الأحكام العرفية سارية.
جاء القرار المفاجئ للرئيس الكوري في سياق نزاعه مع الحزب الديمقراطي المعارض حول الميزانية، فقد خفضت المعارضة نحو 4.1 تريليون وون (2.8 مليار دولار) من ميزانية يون المقترحة البالغة 677 تريليون وون للعام المقبل.
ودخلت كوريا الجنوبية في حالة من الجمود السياسي المرير منذ شهور، حيث فازت أحزاب المعارضة الليبرالية في البلاد بالأغلبية البرلمانية في أبريل، واعتُبرت الانتخابات على نطاق واسع وكأنها استفتاء على يون، الذي انخفضت شعبيته بشكل حاد بسبب عدد من الفضائح والجدالات منذ توليه منصبه في عام 2022، لذا كان منع تخفيض الميزانية ووقف إضراب الأطباء مجرد ذريعة ملائمة لقرارات الرئيس.
بالنسبة للجيل الأكبر سناً الذي قاتل في الشوارع ضد الديكتاتوريات العسكرية، فإن الأحكام العرفية تعادل الديكتاتورية، وقد بدرت من الرئيس نوازع ديكتاتورية قوية مثل إبداء إعجابه الدائم بشخصية ري سينجمان، أول رئيس للجمهورية، الذي أسس الديكتاتورية.
وقد حاولت إدارة يون مراراً وتكراراً بناء نصب تذكاري لري، لكنها واجهت احتجاجات من الرأي العام، فري هو الذي أعلن الأحكام العرفية عام 1952 وأجبر نواب البرلمان على تغيير الدستور وفرض فترة رئاسته الثانية، وكانت وحشية الشرطة وتزوير الانتخابات هما القاعدة، ومارس سيطرة مطلقة على حزبه السياسي. وكان كل من ينتقد أسلوبه في الحكم يُتهم بأنه شيوعي ويُعذَّب.
وبحسب معارضيه، فقد غرس الرئيس الحالي في إدارته مفهوم ري عن الحكومة، واتسمت رئاسته بإساءة استخدام السلطة وتوسيعها. كما ارتفعت وتيرة نشر الشرطة ووحشيتها، وخنق حرية الصحافة بالعقوبات والتحقيقات، وأخضع حزب قوة الشعب الحاكم لشخصه، ومثله كمثل ري، كان أولئك الذين يستنكرون إدارته الحمقاء يُنبذون باعتبارهم «مؤيدين لكوريا الشمالية» و«مناهضين للدولة» في نظره.
ولقد عملت أحزاب المعارضة، وبخاصة الحزب الديمقراطي، على تضييق الخناق على يون من خلال مشاريع القوانين التي قدمتها لعزل أتباعه وتشكيل مستشارين خاصين للتحقيق مع زوجته، حتى أصبح يون محاصراً ولم يعد يحتمل ذلك فقرر فرض الأحكام العرفية.
ذكرت وكالة يونهاب أن ستة أحزاب معارضة قدمت مشروع قانون إلى الهيئة التشريعية، أمس الأربعاء، يدعو إلى عزل يون، وبدأ النواب في كوريا الجنوبية حملة لعزل الرئيس يون سوك يول في الساعات الأولى من صباح اليوم الخميس، متهمين إياه بأنه أعلن الأحكام العرفية بهدف وقف التحقيقات الجنائية معه ومع عائلته.
وقدم نواب المعارضة اقتراحاً لعزل يون.
وجاء في القرار أن الرئيس «انتهك الدستور والقانون بشكل خطير وواسع النطاق» وفرض الأحكام العرفية «بقصد غير دستوري وغير قانوني للتهرب من التحقيقات الوشيكة... في أفعال غير قانونية مزعومة تشمله وأسرته».
وانعقدت الجلسة في وقت مبكر من صباح الخميس، وبموجب القانون الكوري الجنوبي، يتعين التصويت على الاقتراح خلال فترة تتراوح بين 24 و72 ساعة بعد تقديمه إلى جلسة برلمانية.
كما قدم حزب المعارضة الرئيسي الديمقراطي شكوى «تمرد» ضد الرئيس وبعض وزرائه وكبار المسؤولين العسكريين والشرطيين، التي يمكن أن تصل عقوبتها إلى السجن مدى الحياة أو حتى الإعدام، لكن نواب الحزب الحاكم قرروا بعد ذلك معارضة اقتراح عزل يون، بحسب ما ذكرت وكالة يونهاب في وقت مبكر من اليوم الخميس.
ومن المقرر التصويت عليه غداً الجمعة أو السبت، وإذا وافق على ذلك ثلثا أعضاء البرلمان على الأقل، فسوف ينتقل اقتراح العزل إلى المحكمة الدستورية حيث يتعين على ستة قضاة على الأقل الموافقة على المضي قدماً في عملية العزل. وخلال هذه الفترة، سوف يتم تعليق عمل الرئيس عن ممارسة سلطته.
وبحسب مكتب الرئيس، قدم رئيس الأركان، وأكثر من 10 من كبار أمناء الرئيس استقالاتهم، كما دعا رئيس الحزب الحاكم إلى إقالة وزير الدفاع لتوصيته بفرض الأحكام العرفية، واستقال الوزير بالفعل.
وهذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها يون دعوات لعزله، إذ كانت هناك احتجاجات منتظمة تطالب باستقالته، وعريضة حصلت على مئات الآلاف من التوقيعات، وقالت أكبر نقابة عمالية في كوريا الجنوبية الأربعاء، أيضاً إن أعضاءها سيدخلون في إضراب عام لأجل غير مسمى حتى يستقيل يون.